حتم عليه واقعٌ إنكب على إطعامه بتلات تفكيره ، أن يكون أول نافخي الروح في الجسد الواهن.
تشبث حال وصوله وحيداً بالأمل و الإرادة معاً . دلف عاقداً قوس النصر على بوابة الروح إلى الفضاء المضطرب بلهيب التوق المُخمر برغبة الإنعتاق.
هكذا كان في مثل هذا اليوم من العام السابق 11 فبراير 2011.
اليوم يعتمر خوذة خيباته ، ويجوس في نبض الشوارع . يتحسس إنسلاخ الصور من الجسد الرخو للمدينة . و يؤكد أن الخواء يتسربل بأسماء الشوارع الكبيرة ، وان الإبتسام فرط خديعة توحدت بالروح في لحظة تعالت فيها همم الأحزان غالبة الجسد البشري الضعيف. أصبحت الإبتسامة إكسير مواساة للروح الكسيرة.!
كان يمشي كالعادة وحيداً ، حاشراً كفيه في جيب جاكتة الجينز الذي تحللت ألوانه من الرطوبة .
وعلى صدره تتدلى كاميرا سوداء حوافها مطلية باللون الفضي ، من نوع كانون ، كان قد ربحها نهاية العام السابق حين اختارت صحيفة عالمية صوره كأفضل صور للعام 2011 .
لقد فكر ملياً و جدياً بهذا اليوم ، وقضى ليلة البارحة في أرق مشاكس يحقنه بكم عال من التفاؤل ثم يصفعه بكف انفلات الأشياء .
لم يعد شيء في المدينة يبعث على النجاح (يحدث نفسه) كل الوجوه قاحلة ، لم يعد ثمة ردف واحد يرتج بخيلاء أنوثة تطفي شبق العدسة لاحتواء انحناءات جسد غض.
أوووه يا الله هذه الروح التشاؤمية لا تليق بفنان عالمي .
أبتسم ما أن طرقت هذه الحقيقة واقع شروده الفتي الذي كان لتوه قد أفاق منه .
ألقي بظهره على حائط أحد الأبنية . أحتقن رأسه بموضوع الصور الفائزة، لكن سرعان ما تبددت تلك الصور حين تذكر سد الواقع الصلف الذي صادر حلم الثورة ، الصورة التي أهلته للعالمية ، واسكنت اسمه في المانشيت العريض لصحيفة غربية.
أطلق زفرة جافة باردة وأعطي جفونه مباركته لتمارس تسلطها على العيون ، فتشابكت رموش الجفون كأصابع عاشقين مسكونين بقلة الفرص السانحة.!
أطبق جفناه و فكر بأن السماء تضمر له الكثير من المحن ، وانه ليس ثمة أمل يرنوا إلية هنا .
رفع رأسه صوبها فتقوس عموده الفقري قليلاً ، وبشيءً اقرب ما يكون لإشارات دافئة تخدرت كتفاه بالراحة.
استلقت السماء في عينيه ما أن فتحهما و ابتلت روحه بهمسة روحانية وردت له من مد الغيم المتشح بالبياض.
استلهمه الصمت لدقيقة ثم غاب في حر السؤال الذي ومض في خيالة : ماذا لو كان بإمكان عدسة كاميرته أن تلتقط هيئة أحد الملائكة المجنحين؟
تخيلهم كالنحل لا يكلون ولا يتعبون في تنفيذ الأوامر الموكلة لهم من الخالق وقال بصوت خفيف : أن الملائكة قد ضمخت قميص الكون بعبق خفقانها عليه منذ أن خلق الله الأرض و حتى اليوم .
فجأة تناول لجام الواقع قاطعاً كل خيالاته ، وقرر الذهاب لحضور الذكرى الأولى لاندلاع الثورة التي كان لدمائه نصيبٌ في إذكاء شرر عصفها ، يوم سقط جريحاً في الأسبوع الأول من بزوغها عنقاء حياة تكاسر حقد العدم.
ما أن هم بالمشي حتى تشربت حدقتيه بمشهد طفلة تلوح بعلم الوطن من على شرفة منزل مبنى من الطوب الأحمر ، المخطط بخط اسود يفصل بين كل طوبة و أخرى . كانت الطفلة تلبس فستان أبيض ، وعلى خصرها يلتف حزام وردي معقودٌ على هيئة فراشة. الحمام يقف بجانبي الطفلة ، يتراقص ويحلق من جهة إلى أخرى من أمام وجه الطفلة الملوحة بالعلم الوطني .
كان منظراً بديعاً . وكانت حواف كاميرته المطلية بالفضي تلمع بزهو تحت أشعة الشمس و هي ترصد التفاصيل و المشهد ينضج وريداً رويداً تحت لجة الوقت.
و دون أن يتوقع الحمام ، هتكتك الأصوات الآتية من خلف لحىً كثة منقوعة بالسواد ، دقة الزاوية قائلة :
أيها المصور الآثم تصور بنات خلق الله ، ألا عرض لديك؟
خطفته الأيدي و تقاذفته الأقدام . وغاب فؤاد تحت بيادات العسكر .. حلق الحمام عالياً فوق الضجيج وظل المشهد يصغر يصغر ... حتى نسته عيون الحمام.